أصم


أَصم





كلما أغمضت عينيّ بدأت صورة الأشرطة البيضاء تنبعُ في ذاكرتي , شيئاً فشيئاً , حتى يفيض فيّ رعشةُ قلبٍ ممهدةً للدمعِ أن يٌذرف من مقلتيّ بتلك الحرارة,,,

هاانذا لا أسمع أحد , أعبر الأماكن والشوارعٍ , كالهارب تماماً , أشعر بخوفٍ شديدٍ في قلبي , في عقلي , وكأني جنيتُ على نفسي في ارتكاب جريمة الصمت الممل هذا ,
كل ماأراه , أشياء صامتة تتحركُ كلما تحركت مليء عيني , لا رغبة , لا ميل , لا شعور, فقط الكثير من الكراهية لنفسي , والكثير من اللوم لهذا العالم التافه ..

لا أريد أن احصي عدد المرات التي عبرتٌ بها هذا الشارع اللعين , الكثير من اعمدة الانارة تمتد على طوله , وسيارات تعبره كل ثانية , لكن ماهو صوتها , ما صوت تلامس عجلات السيارات للرصيف؟ ماهو صوت أبواق الزامور التي لطلما فهمتُ أنها مزعجة لحدٍ لا يوصف ؟؟

ياترى كيف هو صوت تلك الآلات التي يستعملها ذاك الشاب في أحد أركان هذا الشارع الكئيب ؟ هل أضم الى مجموعة الناس الملتفين حوله ؟ هل أبتسم كما يبتسمون له ؟ لشدة أعجابهم بذاك الصوت الملحن من تلك الآلات ؟ هل أقف كالأبله وأنا لا أسمع شيء! تباً لقباحة هذا المنظر .

مررت من هنا سبعة عشرةَ عاماً أسير بجانب الحائط العريض هذا ذهاباً واياباً للمدرسة أوربما لقضاء بعض الوقت الممل أوربما لأزور مكتبةً قديمة في آخر المطاف , كالنكرة تماماً , أبحثُ عن معنى , أو ربما استعطاف! ياللسخف,,

في سنين من عمري , تعلمت قراءة شفاه الناس , كي أفهم مايتلفظون به , ليس لرغبة أمي , بل لرغبة فطرية لأدنى عمليات العقل ! نعم من أجل الفهم فقط .

في الخفاء تعلمت كل شيء , تعلمت كيف أقرأ , أتأمل كل التفاصيل بنظرات سريعة , وللأسف الأكبر أن ذلك أصبح يؤذيني بصمتٍ أكثر ,, لم أكن افهم ماذا يقولون لبعضهم , لأنفسهم, أوربما عني , والآن بت أرى الشتائم , الحقد , الكره , اللوم , التبلي , لي أو حتى للنقص الذي تملكني دون أن يكون ذلك من خياري حتى .

تقولون أحيانا " تبا لهذه الضوضاء" " اصمتوا" "لم كل هذا الازعاج والصراخ" اسكتو الأطفال " ...الخ
آه لو تعلمون كم أن هذا الصمت العميق الدائم الذي اعاني منه , أنه ينخر في قلبي كما ينخر طائر الخشب منقاره في الشجر , أو كما تنخر قطرات الماء في الصخر على المدى البعيد تاركه فجواتها عميقه مع مرور الزمان ,

تمنيت لو أني أجرب قليلاً سماع تلك الضوضاء , وذاك الصخب ..هذا متعب , أكثر مما تتصورون .
تمرُ أيام الشتاء أتاملُ فيها قوس قزح , النار المشتعلة في مدفئة البيت , قطرات المطر الغزيرة , وانزياح ستائر النوافذ بسبب مرور الرياح عليها طوال السنة ,
لكن ياترى , ما صوت ذحكات ذاك الطفل حينما يرى قوس قزح ؟ ماصوت أغصان الشجر حينما تبتلعها النيران باعثةً بعضٌ الرماد الميت حولها ؟ ماصوت ارتطام قطرات المطر بالطرقات ؟ بأسقف المنازل ؟ بمظلات الناس السوداء ؟ وماصوت مرور الريح تقرع باب المنزل وستائر النوافذ؟

لاأعلم , ماهية الصوت ؟ ذبذبات الرمال على سطح حديدي توحي بالصوت , حتى الأشكال الناتجة لها في قمة الاتقان الهندسي الخلاب , ياترى هل الأصوات بهذا الجمال ؟!

لا فائدة من ملحقة هذه الاسئلة كل يوم , مع أن طبيعة الانسان تسعى وراء المجهول دوماً , فضول البشر ربما
أظن أن العودة الى سطح بيتي المهجور وتأمل الستائر الممزقة تتطاير شيءٌ في مقامِ النسيان .وأغمضُ عينيّ مجدداً .
هـ . محمود



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خواء

عابرون في كلام عابر Passing through the words of passing

فلسطين Palestine