خواء

"خواء"

فتح الفتى الصغير عينيه على منظر هاديء... ظلام وسكون ...وراح يتأمل ما يحيط به فلم يجد شيئا غير "الخواء"  فتساءل والنوم يعانق أجفانه " أين أنا؟"... فتح الفتى عيونه على بصيص ضوء كان يتسلل رويدا رويدا عبر أحد النوافذ طاردا النوم من عيونه و مع حركة وجهه التي تنم عن الإنزعاج بسبب الضوء الذي تسلط على محياه كان قد استفاق من غفوته التي لم يعلم عنها شيئا "أكانت طويلة أم قصيرة" كل ما يعرفه أنه أحس بتعب شديد جعله ينام ورغم أنه نام لم يكن يشعر أنه قد نال كفايته...تأمل محيطه مجددا في حركة خاطفة " لقد كان هذا أمس خواء أم أنني لم أكن أعي ما أرى وزاد تأثير الظلام على بصري فلم أَرَ غريب أمر هذا المكان " قام من مكانه وراح يتجول في الأرجاء كانت هناك نخيل وعيون وثمر وزيتون وكل ما يشتهيه المرء من ملذات الحياة تبادر إلى ذهنه سؤال " لقد كنت مستلقيا ونور قوض مضجعي من أحد النوافذ فاستيقظت وإذا بي في مكان كالجنة وها أنذا أسير فيها من غير جهد ولا تعب وأتنعم فيها من غير رقيب أو حسيب هل أنا أتنعم فعلا؟!!! قالها بنوع من الشك وعدم الثقة "... استغرب الفتى مما يمر به وسرعان ما استلقى تحت أحد الأشجار يراقب المكان في صمت حتى غلبه النوم مجددا فنام وبينما هو على تلك الحال سقطت ثمرة من الشجرة التي كان مستلقيا تحتها فأفاق ...لقد بدأ الظلام يحل تدريجيا على ذلك المكان الفردوسي كان يراقب حلوله ويراقب اختفاء الأشياء من حوله ببطيء ..." خواء" نطق الشاب هذه الكلمة ... شاب ؟!! ... فتى صغير ... فتى ... ثم شاب !!! نطق كلمة "خواء" وهو يستمع لنبرة صوته المتغيرة ولاحظ تركيبته الجسدية التي تغيرت أيضا ما الذي يحصل يا ترى؟ بالأمس كنت فتى كيف تقدم بي العمر سريعا هل لهذا المكان يد في هذا إنه لمن الغريب أن يغفو المرء في مكان مظلم ليفيق في غرفة بها نافذة تطل منها الشمس ليجد نفسه بعدها في الفردوس ومع غفوة اخرى واستفاقة يجد أن الفردوس يتبدد ليصير خواءً ... خواء مع هذه الكلمة التي نطقتها بصوت مرتفع لاحظت أنني كبرت بسرعة فلم أعد الفتى الصغير الذي استلقى في الظلام بالأمس ولا الفتى الذي نام تحت الشجرة منذ لحظات الظلام يتقدم والفردوس يختفي وأنا لا أعلم شيئا عن هذا المكان كيف وصلت وكيف أخرج أو أنني في كابوس مزعج سينتهي بعد لحظات عندما أفيق ... لكنني أغفو وأفيق كيف له أن يكون كابوسا أو حلما عابرا وهل يجوز وصف هذا النعيم والخيرات بالكابوس لقد خِلْتُ أنها الجنة إن لم تكن هي ... غرق المكان في ظلام تام واختفت معالمه وظل الشاب يردد "خواء ...خواء" ومع تباشير الصباح ادرك الرجل أن "الخواء" هو ما يشعر به ... الرجل؟!! نظر إلى نفسه في صفحات ماء البحيرة الرقراق وقد بلغ مبلغ الرجال وقد ترسخ عقله ورَزُنَ ونضج فكره وتفكيره وقال " خواء" 
إن الخواء الذي آراه الآن ما هو إلا نتاج عن خواء داخلي قد انعكس خارجا لأعبر به عن حالة الفراغ التي أعيشها في هذا النعيم لا أحتاج أكل أو شربا كل شيء متوفر وإن لم تلاحظوا فطول مدة وجودي هنا لم تمتد يدي لشيء من خيرات المكان حتى الثمرة التي سقطت علي وأنا نائم مرمية قرب الشجرة لأنني لست بحاجة للأكل والشرب ما أحتاج إليه فعلا هو التفكير إني اتساءل عن الحكمة من وراء هذا أن توضع في مكان مليئ بالملذات ولكنك تُسلب شهوتك لهذه الملذات فمنطقيا إن اراد أحد اختبارك فعند وضعك في مكان كهذا سيؤجج فيك كل شهوة ممكنة لما هو موجود ويرى مدى صبرك وتحملك لكني لا أجد منطقا في وضع شخص في مكان كالجنان وسلبه الشعور بالشهوة لِمَ يراه فلا يأكل ولا يشرب ولا يجامع تلك الفتيات على ضفاف البحيرة الفردوسية ... هل هو نوع من العقاب وليس اختبارا هل هو عذاب؟!! لا أدري إني أشعر بأنني أفكر كفيلسوف إن لم أكن كذلك وكل ما أشعر به هو "الخواء" اللعنة على هذه اللفظة بدأ كل هذا عندما نطقت هذه الكلمة وإني لأحسب أن مخرجي سيكون من خلالها وسأجوب هذا المكان علني أجد ما اصبو إليه وحسب عجلة الزمن التي تدور هنا فبعد غفوة أخرى سأكون قد صرت عجوزا ... مهلا ...مهلا إني لم أحرم من لذة النوم ومع كل غفوة لي أكون قد تقدمت مرحلة في حياتي وكاستنتاج منطقي فاني لن أتقدم في العمر إن لم اغفو وسأبقى على هذه الحال حتى أجد حلا وبما أنني لم افقد لذة النوم فأكيد سأشعر بالنعاس وأنام وهذا ما يجب علي مقاومته الآن إن غفلت ونمت أكون قد خسرت ... تقدم الرجل يسير في بساتين الجنة الخضراء وبين نخيلها وكرومها ويتأمل روعتها ودقة خلقها ما لفت انتباهه أنه مع تواجد كل هذا كان يشعر "بالخواء" تساءل هل شعوره هذا سببه عدم وجود أناس يتواصل معهم قال هناك الفتيات ثم أردف أظنهن مصممات للجماع وللشهوة الجسدية فقط ثم تساءل ماذا لو أنه فقد القدرة على التواصل أيضا كما فقد القدرة على الأكل والشرب؟ كانت الأسئلة تنهش تفكيره لكنه بقي مركزا على شيء واحد " يجب ألا أنام " بقي يتقدم ويتقدم دون جدوى استراح فترات من الزمن كان يراقب فيها حلول الظلام وانجلاءه وقد صدقت نظريته القائلة بأنه مع النوم يتقدم في العمر لأنه ظل كما هو رجلا بسبب عدم نومه لبضعة أيام ... تساءل هل لهذا المكان نهاية...عبثا أتقدم بلا فائدة والتعب بدأ ينال مني ورغبة في النوم تلح علي لا أرى غير " الخواء" أسند رأسه لجذع نخلة ... ما الحل ياترى؟ ... وبعد مدة استفاق وهو يلعن "لقد غفوت وها أنا صرت شيخا ماكان يجب أن أتغافل وأغفو" وراح يفكر هل ستكون شيخوخته حكمة أم أنه سينال منها السفاهة فقط توقف عن الشتم وراح يفكر بتأنٍ... "لا أعلم ما الذي سيكون بعد غفوة أخرى هل سأهلك أم سأخرج ولا أعلم احتماليات هذا الرهان" فكر مليا ثم قال: ولكن ما اعلمه أن هذا سينتهي بعد غفوة إما أن أهلك وإما أن أخرج وكلاهما حل وتخلصٌ من هذا "الخواء" ولكنه أحجم أن يغفو بعد أن أقنع نفسه أنه ليس متعبا وأنه يحتاج وقتا للتفكير أكثر قبل أن يغفو ثم قال فقدت شهوتي في الأكل والشرب لكنني لم أجرب ارغام نفسي على هذا سأحشر في فمي شيئا وأكله وأرى ما الذي سيحصل لي  وأخذ تفاحة وراح يقضمها ...شعر بنشوة غريبة وكأنه يحتسي الخمر لأول مرة بدأ المكان يدور به والأشياء تختلط له فقد توازنه وهو يحس بنفسه يرقص كالمخبولين وهو يصرخ "خواء ...خواء..."ثم اغمي على الفتى الصغير... فتى صغير؟!! أجل أفاق في أحد الأماكن المظلمة ولم يجد غير "الخواء"
ش. مرواني ... العابث 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عابرون في كلام عابر Passing through the words of passing

فلسطين Palestine